shimery.com
New Page 1
 
shimery.com



سفارة اليمن بمصر


متابعات صحفية

أوردت :   اللواء الجديد-العدد4
بتاريخ : 3/12/1944
الموضوع :

كي نفهم دنيا السياسة و الحرب: الروح الأمريكية
أبرز خصائص الروح الأمريكية إفراط النشاط إلى درجة الحُمّى. ذلك أن الأمريكي لا يزال في دور الفترة التي تميل دائماً إلى أن تفيض بما فيها على الخارج. و ساعدت الأحوال المحيطة على إشباع هذه الحاجة العنيفة: فقد كانت أمريكا بكرا واسعة الثراء، فأفسحت المجال أمام كل طائفة حيوية تريد أن تبذل نشاطها إلى أقصى حد مستطاع. فكان بين الأمريكي الأول و بين الطبيعة صراع هائل، ملىء بالمغامرات أحياناً، جذاب إلى الكشف و الرياء في معظم الأحيان. و لازالت هذه الصورة للرجل الأمريكي الرائد المغامر تستهوى الشعوب الأخرى في أمريكا حتى لم يعد العالم يتصورها خالية منها: فلا تُذكر أمريكا حتى تذكر مغامرات رعاة البقر في غرب أمريكا، أو كبار القناصين في الجنوب و هم يحاولون أن ينتزعوا مهنة القنص من السكان الأصليين، تحدوهم في هذا عاطفتان: النزعة إلى الاستكشاف و بذل النشاط الفائض، ثم في قليل استخراج صناعة جديدة.و لا يكاد شهر يمر حتى تخرج السينما أفلاماً تمثل الجوانب، و نجاحها الهائل إنما يدل على استجابتها لشعور طبيعي قوي يحس به الأمريكي و الغربي على السواء، و إن كانت هذه الصورة أولية حلت محلها اليوم صور أكثر تعقيداً، هي التي نجدها في المدن، فإنها تمثل للأمريكي ملاذاً لما في أعماقه من أحلام، كما تعطي الأجنبي صورة براقة قد ألفها عن أمريكا.
و من شأن هذه النزعة الديناميكية أن تدفع بأصحابها إلى المخاطرة المستمرة من ناحية، و الكشف عن المجهول من ناحية أخرى. فكل أمريكي يحاول أن "يجرب حظه" في الحياة، فلا تراه يخلد إلى وضع من الأوضاع في الحياة الاجتماعية بل ينشد التغيير باستمرار. فقلما تجد موظفاً في الحكومة يستمر بها طويلاً، و قلما تجد الشخص الواحد يستمر في مهنة واحدة بالذات. و قد عمل على توكيد هذه الناحية فيه خلوه من الأصالة و التقاليد العريقة التي تبعث دائماً على الاستقرار. فالأمريكي مستأصل مجذر، أي لا يرتبط بأصل و لا بأرض، و لا يمتد بجذوره يف أية بقعة ينزل بها. و لذا تراه خالياً من العنصر النباتي الذي هو الأصل في كل نبالة على الأرض. و من هنا لا يمكن الأمريكي أن يكون نبيلاً، بالمعنى العميق الذي لهذه الكلمة في تاريخها في أوربا و الشرق القديم و بلاد اليونان. و شعوره بهذا النقص قد دفع به إلى نشدان النبالة بأى ثمن. و هذا يفسر لنا احتفالهم للأوسمة التي تهبهم ذكرى النبالة، و سعى نسائهم إلى الاقتران بنبلاء أوربا.
و نتيجة أخرى لهذه الميزة فإن الأمريكي يسبق الفكر، فلا يعنيه إلا أن يبذل نشاطاً مهما كان الدافع إليه. و فلسفتهم نفسها لا تقوم إلا على هذه الفكرة، فالفلاسفة الأمريكان الحقيقيون هم وليم جيمس صاحب المذهب الفعلي (البرجماتزم) و جون ديوى صاحب المذهب الأدائي، أى الذي يعتبر كل شيء أداة لتحصيل نتيجة عمليةز و هذا يدفع بالأمريكي إلى نشدان مخاطرات لا يدري هو نفسه العلة في دخوله فيها، و إنما هو مجرد الرغبة في تحقيق الفعل هي التي تحمله عليها. فلا تطلب من الأمريكي دائماً أن يبرر لك مسلكه.
و هذا قد أدى بهم أيضاً إلى النزعة المادية المغالية التي لا تعترف إلا بالمادة و بها وحدها، لأنها هي التي يتحقق العقل عن طريقها. و لذا نشاهد ازدياد العناية بالصناعة الفنية في أمريكا أكثر منها في أي بلد آخر. و هم لا يعنيهم من الصناعة الفنية في أمريكا ما تقوم عليه من نظريات علمية، إنما مجرد التطبيق لأنها لا تصدر عن حاجة عقلية يستشعرونها أنفسهم، بل عن حاجة عملية خالصة – حتى انتهينا إلى ما يمكن أن يسمى باسم عبادة الآلة في أمريكا. و فقدان الجانب النظري في العلم و الصناعة الفنية قد طبع الصناعة الأمريكية بطابع خاص هو سيادة الطابع الكمي الذي لا يهتم إلا بوفرة الإنتاج دون تنويعه أو تكييفه بكيون متعددة. و هذا هو الأصل يف فكرة "الاستندرد" التي تسيطر على كل إنتاج صناعي في أمريكا. و معنى "الاستندرد" اتخاذ نموذج واحد أو قليل جداً من النماذج للانتاج. ذلك أن الاتجاه الكمي يحاول أن يصب كل شيء في قالب واحد أو قوالب محدودة، و الحرص على وفرة الإنتاج يدعو إلى عدم التنويع حتى يمكن للانتاج "بالجملة" في أسرع وقت.
و إذا كنا نجد مع هذا شيئاً من النزوع الروحي عند بعض الأمريكيين، فما ذلك إلا في الظاهر و من باب "تقليد" الأوربيين، و عند أقلية متناهية الضآلة. و نادراً ما تجد عند الأمريكي تجربة روحية عميقة، دينية أو غير دينية، و إذا كنا مع هذا نجد لديهم تمسكاً بالدين، قد لا نجده حتى في أوربا نفسها، فما ذلك إلا لسببين: الأول تأثرهم ببقية من أصولهم "البيوريتانية" التي جاءوا بها من القارة القديمة، و ثالنياً لإحداث شيء من التوازن بين مغالاتهم في الناحية المادية و بين النداء الروحء الذي يستشعر به كل إنسان – أيا كان – في داخل نفسه. غير أن هذا التدين نفسه مطبوع بطابع عدم الاصالة مما من شأنه انعدام الحاسة الدينية الصادقة، ثم التعلق بالمظاهر الخارجية من طقوس و مراسم، بدلاً من النفوذ إلى أعماق التجربة الدينية العميقة. و لعل هذا أن يتمثل بكل وضوح في جماعة "العلم المسيحي" التي هي النموذج للتدين الأمريكي.
و يرتبط بسيادة الفعل على الفكر، و الإدارة على بقية الملكات، زوال العاطفة و نضوب الوجدان. فالعطف بمعناه الروحي العميق، و الإيثار بما فيه من إنكار للذات و انصراف عن إغناء الذات إلى الغير، كل هذا لا يفهم له الأمريكي معنى. و لهذا تجد الفاشلين دون أي عطف من أحد، حتى لو كان ذلك برغمهم و دون أن يكون لهم في الخلاص من حيلة. و إذا كنا مع هذا نجد نفراً من كبار الأغنياء يهتمون بأن يقال عنهم إنهم محبون للخير، فتراهم يقبلون على دفع الهبات الطائلة و التبرعات الهائلة، فإن هذا لا يصدر منهم عن احساس صادق و شعور بأحوال المعوزين، بل من باب التباهي أو التقليد. لهذا ترى في مؤسساتهم الخيرية نوعاً من التصنع و الجفاف، مما يتنافى مع هذا العطف السخي الباسم الذي يشع من المؤسسات الخيرية في أوربا أو في الشرق العريق.
كما يتصل بهذا الافراط الديناميكي في التحصيل و عدم الأصالة كون الملكية في أمريكا تفهم فيها على نحو خاص يختلف كثيراً عن ذلك الذي نراه في بقية العالم. فالأمريكي لا يفهم من الملكية إلا مجرد التحصيل، دون الاستمتاع أو الشعور بالقوة. و هذا يفسر لنا هذا الحرص الهائل على الثراء الفاحش جداً مما يتمثل في كبار أصحاب الملايين و المليارات في أمريكا. فلأوروبي يريد من الثراء إما الشعور بالسلطان و القوة، أو الاستمتاع بنعمتها، أما الأمريكي فلا يرى فيها أي معنى من هذه المعاني الروحية، إنما مجرد "وفرة" التحصيل، لأنها دليل على وفرة النشاط. و إذا كان صحيحاً أن ازدياد المِلك يتناسب مع الاحلال في الوجود، فما أحرى هذا أن ينطبق على الأمريكي الذي لا يريد أن يفهم من المِلك حتى مجرد محاولة الثراء الذاتي و ازدياد امكانيات السيادة و السلطان، إشباعاً لإرادة القوة.

 

رجوع

shimery.com
مقالات | ألبوم الصور | مؤتمرات | لقاءات صحفية | نشاط ثقافي
لمراسلة موقع السفير راسلنا علي
info@shemiry.com