shimery.com
New Page 1
 
shimery.com



سفارة اليمن بمصر


لقاءات صحفية                     

تفاصيل اللقاء
لقاء الدكتور الشميري مع مجلة اليمامة    

التاريخ 3/12/2003م
المصدر مجلة اليمامة - السعودية  - حاوره:  نبيل نور الدين
النص

د. عبد الولي الشميري، ما هي الصورة التي تتذكرها عن طفولتك بأبعادها الزمنية والمكانية، ويمكن أن تنقلها إلينا بالكلمات؟
جـ1: في أرشيف ذاكرتي صوراً أتذكرها كلما قلبت صفحات ألبوم الذكريات المخزون في قسم الطفولة المحفور في مكتبة العقل بين جينات الوعي. اختزنتها ذاكرتي منذ بداية التمييز للأسماء والمسميات بين سني الرابعة من العمر حتى الرابعة عشر حيث مرتع الطفولة، ومربع الصبا. في بادية شمير وهيهات أنساها بعد خمسة وثلاثين عاما مضت من التقاط ظلالها المسموع، أو المرئي، أو المحسوس.
نعم أتذكر حفيف الشجر التي كانت تعبر من خلالها قوافل الرياح الموسمية، فتجبرني وأترابي صبية القرية على العودة سريعاً إلى منزل أمي مسرعاً إلى حضنها الدافئ؛ كالملتجئ المستغيث لأن تلك الرياح كانت محملة بأتربة موسمية، ويتلوها جيش من رذاذ القطر التي تسبق زخات المطر، وقواصف الرعود، التي تتلو سيوف البروق، حيث كنَّا نصاب بالذعر منها، وتتهلل لقدومها وجوه الأهالي فرحاً بها لأنها تحمل الخير والرحمة، وهو المطر الذي ينتظرونه ليوقظ المحراث، ويزين الأرض بالخضرة والعشب، وهو رسول الرزق المنتظر والوحيد.
وأتذكر تلك الليالي الداكنة السوداء في شروخ الهضاب والجبال العالية التي خلقنا فيها، وكم هي فرحتنا عندما تأتي ليالي القمر البيضاء التي قد تحجب عنَّا بعض القلائد الزاهية التي تعودناها في السماء من النجوم الكثيرة المزدحمة، التي لا تعد ولا تحصى.
ولكن القمر يسمح لنا في الليل بالرؤية لما حولنا من البيوت، والسُّمار على أسطح المنازل، وبالمنادمة مع الأطفال الذين كانوا مثلي يدلون رؤوسهم من شرفات البيوت لنتهامس الحديث عن ألعاب الأمس ومشروع الغد الترفيهي. كانت غُدُر المياه وشلالات ليالي السيول تنتشر في الشعاب الشرقية لقريتنا الصغيرة، التي كانت كبيرة جداً في نظري، ربما أكبر من مدينة القاهرة اليوم، لأن بيوتها كانت بالعدد تسع بيوت، الواحدة منها تشكل في ذاكرتي رحابة حي الزمالك، أو محافظة الجيزة بكاملها، لأن تلك البيوت كانت تساعدني على الاختفاء في مخابئ زوايا منحنياتها الصخرية المعتمة نهارًا، والمظلمة ليلا، ولها تقاسيم تشبه الحجرات، وقد يزيد عددها عن ثلاث أو أربع حجرات بعضها تسكنها البهائم، وبعضها مخازن للأغذية الحيوانية، وأدوارها الثانية والثالثة يأوي إليها أهل الدار.
لم أكد أصدق يوماً من الأيام أن هناك على وجه الأرض حواجز تخزن الماء أو مسابح من صنع البشر أكبر من تلك التي كنت أتعلم السباحة فيها مع الأطفال في غُدُر - بضم الغين والدال – حفر في ممرات السيول المنحدرة إلى الحقول التي تأوي فيها المياه ليلة المطر ونسميها في لغتنا (القلته) بفتح القاف وتسكين اللام.
حيث كانت حفراً يحتفرها السيل في ممراته الترابية، قد يصل عمقها إلى مترين، ومحيطها بين عشرة أمتار وما دون، واسمها (قلته) فصيح من صميم العربية موجود في معاجم اللغة العربية الفصحى.
نعم مازالت صور الطفولة تتناطف لذكرياتها دموعي ندما، على عصفورة طارت ولم تمهلني فرصة حتى أصطادها، وحزناً على عصفورةٍ اصطدتها ولم أجد في جسمها ما يؤكل سوى عظمٍ نحيل يغطيه جلدٌ وريش، وفزعاً من أفعى هاجمتها في جحرها انتقاماً لبيضةٍ ابتلعها من عشِّ صديقتي اليمامةِ وكان عشها مدلاً على شجرةٍ في مزبلة قريتنا، وجزعاً من ثعبان طاردني وطاردته عن غير قصد في طريق مزرعتنا بعد أن أفزعته وهو نائمٌ في إحدى جدر المدرجات الزراعية!!. إن آلافاً من الصور الغريبة المتزاحمة تتدافع الآن من ذاكرتي إلى لوحة العرض في مهرجان الطفولة والذكريات، لكن الليلة التي كان أهالي القرية من الرجال ينتشرون بأضواء الفوانيس التي يحملونها في أيديهم، ونرى ونحن على سطوح منازلنا المغلقة بالأبواب تلك الأضواء في شعف الجبال تغيب كالنجم عند الغروب كلما توارى حاملوها في وهاد منخفضة، وتنتشر مرة أخرى كلما ظهر حاملوها في مرتفع.
وأتساءل مع أمي من أولئك الذين لا يخافون الوحوش والسباع، ويمشون في شعاف الجبال؟! فتجيب: إنهم أعمامك رجال القرية، يبحثون بأمر الحكومة عن القاتل: - الصوفي – الذي قتل بالأمس تاجرًا مسكينًا طيبًا يسمى علي بن قاسم غيلان عندما كان رفيقاً له في سفره ورماه في ظهره عندما كان يصلي المغرب على نهر المخيشيب وفر هارباً. ولكن تلك القافلة الكبيرة من العسكر التي يبلغ عددها ثلاثين جنديا ستعود مرة أخرى غداً لمعاقبة الذين لا يذهبون للبحث عن القاتل الذي فرَّ.
الثورة اليمنية وأحداثها، بماذا كانت مشاركتك فيها؟.
جـ2: لم أكن أعلم يومذاك أن هناك تاريخاً يحدد زمن كل حادثة باسم اليوم، والشهر، والسنة، ولكني أعلم أن ثورةً جمهورية قد قامت بدلاً عن إمامة ملكية في ذلك العام.
وكانت أسئلتي التي لا أفهم لها إجابة مقنعة، ولا أجد من يستطيع إقناعي بجواب مفيد، هما سؤالان فقط:
الأول: الثورة الجمهورية التي قامت، من أيقظها وأقامها؟ وهي بنت من؟ ومن هو زوجها، وأين كانت نائمة؟ كم لديها من أطفال، ولماذا جاءت إلينا فقط ولم تذهب لبقية القرى التي خلف الجبل؟؟! والسؤال الثاني: أين ذهبت الإمامة الملكية؟ لماذا ذهبت؟ هل طلقها زوجها؟ وما اسمه؟ هل الإمام أحمد إبنها أو زوجها؟ وكانت يومذاك تلك هي الأسئلة الهامة السخيفة التي تشغل بالي، خاصةً وأن العَرَّاف العجوز الذي كان يأتي كل سنة مرة أو مرتين فيبت على جبانة المسجد يقلب سباحته مراتٍ عديدة ثم يخبر عمي شقيق والدي بمستقبل البلاد، والعباد، والأمطار، ورحيل السيدة الفاضلة الملكية الإمامية، وقدوم المشاكسة السَّخيفة الآنسة الجمهورية. ولا يهمني الثورة ولا الثوار، ولا الزعيم عبد الناصر ولا السلال، كلما يهمني هو أن لا تفوتني فرصة ألتقط فيها كيسًا من حلوى كالبيض لذيذة تصنع في مصر، تلقيها طائرات الهليوكوبتر المصرية على رؤوس الأطفال في القرى والجبال، وهي في كيس من البلاستيك الأبيض، ملفوفة بصورة جمال عبد الناصر، وعبد الله السلال.
كانت تلك كما أظنها السنوات الثلاث الأولى من عمر الجمهورية العربية اليمنية بين سنة 1962م و1965م وعمري حوالي السابعة تقريبًا.
أما عن طفولتي كانت ملآ بالمغامرات، والانتصارات والهزائم الوهمية مع رعاة الأغنام في القرية، ومع الفلاحين في المرعى، ومع أطفال القرية أترابي، وكم زفت إليَّ عرائس عشرات من البنات في مواكب زفاف صاخبة بأصوات الفرح والابتهاج الطفولي، وإطلاق أصوات تشبه أصوات الرصاص الحيّ، والألعاب النارية، ولكنها بأصوات المشاركين من الأطفال في موكب الزفاف، وانتشرت فوق رأسي كعريس سحائب من أتربة المزبلة التي كان الأطفال يرشونها في الهوى كي تشابه دخان الألعاب النارية في مسيرة الزفاف.
وكم تسببت تلك الزيجات والمواكب في تعرضي للضرب الحنون أحياناً من أمي التي أعياها العمل في تنظيف الملابس وغسل جسدي من أتربة المزبلة ودخان مواكب الزفاف الصاخب الذي قد يتكرر كل يوم مرتين أو ثلاث.
وكم انفضت مسيرات الزفاف المسرحي وتحولت من أصوات ابتهاج وأغاريد فرح إلى بكاء ودموع عندما يهجم على موكب العروسين أحد أعمامنا الذين نوقظهم من نومهم وهم صيام في رمضان عندما يمر موكب الزفاف بجوار نوافذ غرف نومهم.
لكن فرحتي بيومين هامين من أيام طفولتي لا تعادلهما فرحة حتى الآن: اليوم الأول: عندما وصلت في حفظ القرآن إلى سورة البينة، كان عبد الرؤوف فقيه الكتاب قد أعلن ذلك اليوم يوم حفلة، واستعد لتزيين اللوح الخشبي الذي كان يكتب عليه الآيات التي نحفظها بقلم اليراع، ونمحوه كلما حفظناها لنكتب عليه سورة أخرى.
لقد كان يوماً مشهودًا ما كدت أنام من الفرح به استعدادًا لاستقباله لأن رسم الطغراء الوشئ بالألوان الحمراء، والسوداء، والبيضاء، والصفراء، كان الأستاذ عبد الرؤوف قد رسم ذلك خفية على جوانب اللوح ولم يدع بها إلاَّ مساحةً صغيرة في وسطه ليكتب عليها ثلاث آيات من سورة البينة، لأنها الربع الأول من جزء عمَّ.
وكانت أمي قد أعدت ديكاً ضخماً من حظيرة دجاجها التي ربتها في المنزل، ليذبح الديك ويترك بعد قطع رأسه للقفز بدمه من حولي، ودماؤه تنقط ملابسي ويدي كتعويذةٍ من الشياطين، وفألاً حسناً بأن أكون سريع التنقل من سورة إلى سورة بالحفظ المطلق، كسرعة قفزات الديك المذبوح. واليوم الثاني من أيام السرور الغامر في طفولتي كذلك بل أشد ابتهاجًا، عندما بلغت سورة الجن وأتممت حفظ جزء ونصف من القرآن، واستحقيت إجازة يومين، وابتلعت قلب الديك نيًّا دون طبخ. هذه حقائق لا أساطير، وواقع لا خيال.
ماذا عن تعليمك في الطفولة، وماذا توافق منه مع مرحلة الشباب؟
جـ3: لم يوافق أو يتوافق شيء من تجارب الطفولة مع واقع الحياة التي واجهتها في ريعان الشباب.
فقد عاد والدي الحاج عبد الوارث فرحان حفظه الله وأطال في عمره من المهجر البريطاني عندما بلغت التاسعة من العمر وألزمني مصاحبته ومجالسة الكبار، والاستماع إلى قضاياهم، وهمومهم، ومواصلة حفظ القرآن، ومرافقته في زياراته، ومصاحبة الرجال الكبار، حتى وجدتني أجلس مجالس العلم، وأعلم أهل القرية أحاديث رياض الصالحين، وفقه الشافعي، وطريقة غسل الجنائز، وأخطب يوم الجمعة بالناس، وأصلي إمامًا بأهل القرية، وربما أحيانًا بدون وضوء، فإذا تذكرت ذلك بعد الصلاة لا أخبر أحدًا.
وانتقلت إلى تعلم فقه المواريث، وأحكام الجنائز، وأصبحت مكرهًا فقيه القرية، وواعظها، وشاعرها الصوفي، ومفتيها فيما أعلم وفيما لا أعلم؛ لأنني أعلم من فيها ومن عليها...
ولم يكتف قدري بهذه النقلة الكبيرة في حياتي قبل بلوغ الثالثة عشر من العمر، بل قذفت بي همة أبي العالية لمفارقة أمي ومفارقة عرائسي بنات القرية، ورعاة الأغنام، وأفراخ الأعشاش إلى هجرة نائية لطلب العلم في مدينة زبيد العلمية العريقة لأحمل المجلدات الضخمة من الكتب، والكراسات الكثيرة، وأبدأ تعلم النحو والصرف، والمعاني، والبيان، والبديع، والفقه الشافعي والتصوف.
وكان علي أن أحفظ تلك الكتب الكثيرة والمسانيد، والقواعد. وما زال صوت أستاذي في القرية الحاج إسماعيل - عليه رحمة الله - يرن في أذني بحكمة تقول "من حفظ المتون دخل الحصون".
وحينذاك بدأت رحلتي مع الشعر والمغنى، أتغزل وأحاكي المدائح الصوفية. لكني أفدت تمام الفائدة العلمية من شيخي السيد عبد الجليل غالب النهاري الذي كان محبوبًا – رحمه الله – وقريبًا من قلبي لأنه كان كثير المضاحكة، والفكاهات، وحكيم في تواضعه، وكان إخلاصه أكبر عون على إنارة صدري بكل معلوماته التفسيرية، وكان ألثغًا وقليل الإبانة في الكلام لكنه أكثر قدرة على التأثير والإفهام.
ولا أكاد أنسى إن نسيت كل شيء ذلك الحنان والعناية والرفق بي من أستاذي السيد عبد السلام بن محمد الحداد الذي كان شديد العناية بي لكنه ذا حياةٍ جادةٍ وعبادات متواصلةٍ، وهمةٍ عاليةٍ لا تمل ولا تكل، أضنيته وأعييته بعدم حفظ متن الأجروحية، أولى قواعد النحو لمؤلفها محمد بن عبد الله الأجروحي، وكنت بطئ الفهم لدروسه في النحو أو الفقه، لأن هيبته في نفسي كانت الأقوى نفوذًا وسيطرة على ذهني.
ومن مدرسة زبيد ورقة أساتذتي فيها الأجلاء كالشيخ مفتي زبيد السيد محمد بن سليمان الأهدل، والسيد أحمد داوود البطاح رحمهما الله، والسيد محمد بن عمر الأهدل، والسيد محمد بن علي البطاح وغيرهم من الأجلاء إلى مرحلة المغالبة في الدراسة النظامية المدرسية والجامعية التي ما عانيت يومًا من الأيام شيئًا من صعوبتها لأني قدمت إليها مليئًا بالمعلومات، والقواعد، والمحفوظات، فمخزوني العلمي من الطفولة جعلني أسخر من كل أوراق الاختبارات المدرسية والجامعية، واستهزل مناهجها إلاَّ من مادة الجبر، لا ألحقها الله عني خيرًا، فكانت وما تزال غمًا على نفسي لا يقل عن "إيرئيل شارون".
ماذا تتذكر من أهم مغامرات مراحل الطفولة أيضًا؟
جـ4: مرحلة الطفولة تختلف تمامًا عن فصول المراهقة والشباب، لكن شيئًا هاما مازلت أتذكره، وهو عنادي الشديد في كثرة الأسفار، والسفر الذي كان غالبًا على ظهر حمار أستأجره أو أستعيره، والمغامرات بالأسفار الليلية، لاعتقادي بأن الذي يسافر ليلا في هضاب البادية وجبالها الوعرة يعتبر في نظر المجتمع همامًا، شجاعًا، وبطلا من الفرسان، ولذلك حرصت على أن أتعلم الرماية في العاشرة من عمري من أجل إعداد نفسي لدور يشبه دور سيف بن ذي يزن، ويحاكي أبطال كتاب الأمير أسامة بن منقذ، وتلك الفروسية التي يواجه شجعانها السباع، والنمور ويبارزونها، تأثرًا بأساطير كتاب يسمى "فتوح اليمن رأس الغول" لمؤلفه أبي الحسن عبد الله البكري. وطالما حدث في طفولتي أن شننت الحرب الليلية في الطرق الجبلية المقفرة، بالرصاص الحيّ من بندقية تخص أبي عندما كنت أغامر في الظلام الدامس، وكانت السباع كالأساطير تحكي لنا وتنتشر في جبالنا وحول قرانا، كان أبي شديد الحنان والحزم، لم يؤدبني بالضرب التربوي إلا مرة بسباحته لأنني نسيت حفظ سورة الكهف، ومرة أخرى بردائه لأنني غامرت باقتحام عرين سبع متوحش، حيث كان السبع خارج عرينه ولكنه عاد إليه بعد أن كنت قد سطوت على رضيعيه الذين لم يزد حجم الواحد منهما عن قط صغير في الأسبوع الأول لولادتهما، وتمكنت من أخذهما إلى القرية لألعب معهما، فلما قدمت بهما إلى البيت رأيت أمي قد ذهلت وانتقع لونها من الذهول والخوف، وذهبت تخبر والدي بما ارتكبت من مغامرة غير مدروسة، فإذا بي لأول مرة أتعرض للضرب من والدي عافاه الله بردائه عقوبة على ما صنعت، أسفت لأن كل الأهل من حوله يؤيدون أن أُضرب أكثر لأنني أقدمت على عمل انتحاري، وكلهم عن صوت واحد يستجوبني عمَّا لو كان الأسد يرى لحظة اقتحامي عرينه، والسطو على أطفاله، ماذا سيحدث؟!!!. في حياتي مغامرات أيضًا دراسية، وفلسفية مضحكة ومبكية، فمن مجالستي لبعض المتصوفة الذين يعتقدون شعوذةً بأن العالم المجهول الجن يمكن أن يتملكهم البشر، ويجمعهم إنسي ويصرفهم حيث يشاء ويطوعهم لأمره، لقد دفعتني المغامرة أن أدخل هذا الفن وأقرأ كتبه وأُعدُّ نفسي لامتلاك العفاريت، وفي هذا الفن قرأت عشرات الكتب، وحفظت الطلاسم والكلمات المتقاطعة، وطالما حاولت النوم في سطوح المساجد، وعند القبور في ليال مرعبة، ومما قرأت في هذا الفن الكتب المحظورة حتى الآن كالكبريت الأحمر، وشمس المعارف، ومجربات الديربي الكبير، وأبو معشر الفلكي، والجواهر اللماعة في استحضار ملوك الجن، وغيرها. وبعد رحلة مضنية من الذي أثر عليَّ، توصلت إلى حقيقة الوهم بأنَّ تلك خيالات نفسية تؤثر فقط على من يعتقدها بأوهام لا آخر لها، ونصحت الذي ورطني عبد الغني إسماعيل بالعودة إلى جدول أعمال نافعة في الحياة.
كيف عدت أنت لجدول أعمال حياتك؟
جـ5: عدت إلى كتب العلم الشرعي وعلوم الآلة، وعلم الكلام من خلال انتمائي لكلية اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود بفرع أبها، منتسبا حينًا ومنتظمًا حينًا، بالتزامن مع عملي الذي بدأت أعتمد عليه في الحصول على مصاريف شخصية تعين على الترحال، كمدرس لمادة النحو والبلاغة بمعهد النور العلمي بمدينة الحديدة.
لكن تلك المرحلة كانت أصعب أيام التثقيف العقائدي، خاصة في جانب الإطلاع والمناظرات العلمية في علم الحديث، وفنون الرواية وعلم الجرح والتعديل، والدراسة المتأنية للفكر الوهابي والفقه الحنبلي، حتى حفظت كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتاب أصول الدين الإسلامي، كما كنت حافظًا كتب العقيدة الأشعرية، مثل كتاب جوهرة التوحيد، وعقيدة العوام، ومتن الخريدة استظهارًا، ولكن كتاب العقيدة الواسطية كان آخر ما حفظت وحافظت عليه في واعتناق العقيدة السنية، ولكني كنت مغرمًا بالجدال الفلسفي والمعتزلي والمناظرات المعاندة بين السلف والخلف، فكلما جلست مع المعتنقين للعقيدة الأشعرية أتخذ في مواجهتهم الدفاع عن الفكر الوهابي، وحيث أجالس المتعصبين للفكر الوهابي أتعمد الوقوف مع الأشاعرة، والدفاع عن العقيدة الأشعرية، ولكن مرحلة النضج الفكري، والعقلانية الكاملة لا تتأتى دون إحاطة بالتاريخ وعلم الملل والنحل، والحركات والمذاهب، وقراءة مسيرة التاريخ. وأعترف أنني كنت حتى تلك المرحلة الجامعية، أجهل كثيرًا من ذلك، حتى ظهرت فتنة جهيمان محمد بن عبد الله القحطاني واستيلائه على الحرم المكي سنة 1400 هجرية 1980م، هناك أفقت على حاجةٍ ماسة لقراءة كتب التاريخ وعكفت عليها حق العكوف، وخاصة منها تاريخ العلامة محمود شاكر المرتب المنسق، واتبعته بقراءة تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم، وبدأت تتبلج أمام عيني رؤية فكرية قادتني لمتابعة وقراءة أجزاء كتاب قصة الحضارة العالمية في مهد إصداراتها الأولى المتواضعة، مع عناية بأخبار العرب والمغازي والسير، إذ وجدتني بحاجة لإعادة النظر في كثير مما قرأت من قبل، ولكن بحصولي على درجة الليسانس في اللغة العربية قررت أن تكون نهاية المطاف للدراسات الرسمية لأعود للحياة العملية لأساعد والدي في إدارة مزرعته في إحدى ضواحي مدينة الحديدة، لأمارس مهنة التدريس، ولأغالب في المشاركة في الحياة الثقافية والعملية، والسياسية، وقد كان لي كل ذلك.
كيف التحقت بالسلك العسكري، وأصبحت تحمل رتبة "عميد"؟
جـ6: وجدت نفسي مطالبًا بأداء الخدمة العسكرية كأي جامعي تخرج، ولا مجال للعودة إلى الوظيفة الحكومية دون ذلك.
وانخرطت في السلك العسكري على أمل البقاء فيه عام أو عامين فقط في سنة 1979م، لكن اليمن دخلت في مطلع الثمانينيات مرحلة الانحدار الأمني للهاوية، واندلاع القتال بين نظامي جنوب اليمن وشماله، وباسم الجبهة الوطنية التي كانت تعلن الدعوة إلى العقيدة الماركسية والنظريات الشيوعية التي غررت بالآلاف من رجال الجيش، والأميين من سكان القرى، ونظمتهم في تنظيم حزب الوحدة الشعبية، وسلحتهم بأحدث الأسلحة التي كان يمده به النظام في جنوب اليمن، ومن الاتحاد السوفيتي وأثيوبيا، وتم لها الاستيلاء على المناطق الكثيرة والواسعة، والهامة من شمال اليمن، وفرضت على المناطق التي استولت عليها التوجه الماركسي، واتخذت سفك الدماء والرعب المدمر أسلوبًا لاجتياح القرى والأرياف، حتى وجدتني غير قادر على العودة إلى بلدتي شمير لزيارة أمي وأبي، لأن الجبهة التي كانت تمتلك عناصر مقاتلة خبيرة ومدربة نوعيًّا بشكل كثيف، أكثر من جيش الدولة سيطرت على ريفنا.
وهنا، وعندما استيقظت ذات مساء على أصوات النوادب في القرى القريبة يبكون اقتيادهم إلى مكان مجهول عنوةً لأنهم رفضوا الانخراط في تنظيم الجبهة، تلك الليلة كانت بالنسبة لي ليلة مروعة، وإن كنت هرعت ولكن بعد أن انسحب المهاجمون، وفي ذات الأسبوع أطيح بقرية أخرى بسبب تسميم المياه في بئر لمياه الشرب عقوبة لامتناع أهلها عن مناصرة الجبهة.
عند ذاك قررت البقاء في السلك العسكري، وشكلتُ قوة دفاعية أمنية من أبناء القرى بقيادتي، وطلبت من الدولة في صنعاء الدعم، والمساندة، وفرص التدريب، والإمداد، وبعد تردد كبير من بعض مسئولي الدولة في ذلك قبلوا السماع إليَّ على تخوف وتوجس، وهناك أصبحت على قائمة المحاربين، وتدرجت في قيادة المعارك حتى كللت كل جهودي بتحرير المناطق التي كانت قد سقطت بيد الجبهة، وأعدت الأمن والنظام بعد أربع سنوات مريرةٍ من الصراع الدامي التي لا يكفي لذكرها كتابٌ واحدٌ لكنها موثقة ومدونة لدي، وقد أتاحت لي تلك الظروف الصعبة والحرجة والمريرة فرصة الاستمرار والبقاء في السلك العسكري، والتدرج في الرتب العسكرية والعلاقات الواسعة من الصداقات والثقافة القتالية والحربية، وقراءة التاريخ العسكري، والاستراتيجيات القتالية الحديثة، والاشتراك في عدد كبير من الدورات التأهيلية العسكرية والقتالية، وكإحدى ثمار تلك الحياة الجادة كان كتابي عن المقاتلات الحديثة في الطيران الحربي، وكتاب الاستراتيجية العسكرية لعاصفة الصحراء، وكتاب ألف ساعة حرب في التاريخ العسكري، وتمكنت في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي من التعرف عن قرب بالرئيس علي عبد الله صالح، وعرفني عن قرب، ذلك ما جعله يهتم بي وأهتم به حتى الآن، وجعلني أفضل البقاء في خدمة اليمن من خلال الانتماء للسلك العسكري، خاصة وأن كبار ضباط الجيش والأمن في اليمن يرون في عبد الولي الشميري الزميل والأخ والصديق الأقرب كما هم عندي كذلك.
عرفت في ناحيتي مقبنة، وشرعب، وما زلوا يخاطبونك باسم القائد، وكنت هناك قاضيًا، من أين جاءت هذه الألقاب؟
جـ7: عندما استقرت الأوضاع الأمنية في الأرياف اليمنية ووضعت الحرب أوزارها، كان عليَّ التوجه للعمل في خدمة قرى الأرياف التي كنت مسئولا عنها وما زالوا يطلقون علي فيها اسم القائد، كما كنت فيهم منذ عشرين سنة وكانت قرى باديتنا محرومة من التعليم لعدم وجود أي مدرسة للأطفال فضلا عن الكبار الذين تصل فيهم نسبة الأمية إلى 95%، ومحرومة من التمتع بخدمات مياه الشرب، ومن شبكات الطرق، رغم وعورة المنطقة، و تحولت إراديَّا للعمل في فض الخصومات، وحل الخلافات الدامية وإصلاح ذات البين قبل أن يتعزز وجود أجهزة الدولة في تلك المناطق، وتم لي فعلا عمل مشاريع كبرى للمياه من أموال الأهالي والمغتربين الذين كان يصل عددهم في المهجر إلى نسبة 50% من السكان وجادوا بالتبرعات، ووصلت المياه إلى كل القرى في قمم الجبال العالية، وعملت على إنشاء مائة وثلاثة عشر مدرسة، وكتَّابًا، ولأول مرة بدأت بنات القرى تتلقى الدراسة في المدارس والمعاهد، وتعرف أبناء القرى الجبلية الشاهقة على السيارات التي سمعوا عنها ولم يروها لعدم وجود طرق للسيارات في تلك الأرياف النائية رغم الكثافة السكانية، التي ما كانت تعرف سوى سلطات المشائخ الوجهاء لدى الدولة، والذين ينحصر جهدهم في جباية الزكاة، وقمع من يخرج ولو بكلمة عن الخضوع لسلطانهم، ويتنافسون على التقرب من رجال الدولة بالرشاوى لتسخيرهم كسجانين بسلطة الدولة للرعايا الفلاحين الذين يريد الوجهاء من المشائخ إخضاعهم الكامل لنفوذهم، كما كانت العداوات والأحقاد والتقاضي بالباطل والنزاعات الدامية تمثل مهنة أساسية لأولئك الأعيان.
ما الذي وافق طفولتك وما الذي خالفها؟
جـ8: لقد كنت في طفولتي لا أعرف شيئا يقنعني حق الإقناع أو يروي غليل طموحي حتى في الألعاب وحب الاستطلاع، ولم أكن حينذاك أعرف سوى ما أرى أو أسمع في قريتنا، من أقاصيص وأساطير، أحسبني نشأت في أفضل ما ينشأ عليه الأطفال، وعالم الطفولة كان واحة من التجارب المفيدة.
وفي مرحلة الشباب لم أذق فيها سوى عناء الأسفار، ومجاهدة النفس، وعشق القلم والأوراق، وطول السهر، حتى لا أذكر فراغًا مر بي قط طوال ثلاثين عامًا من عمري، إلا إذا كنت مريضًا في المستشفى لا أقوى على القراءة.
حتى تمثلت بقول القائل:

مسافرٌ زاده في رَحْلِه الحْلُمُ ________________________
يعيش ليس له في حبِّه أملٌ ________________________

وعاشقٌ قوتُه الأوراقُ والقلم ________________________
سوى معاناة شوق بات يضطرم ________________________

فكثيرًا ما تمنيت أشياء ولم أصل إلى شيء منها، وكثيرًا ما كرهت أشياء فتجرعتها في كأسٍ مترع، وكثيرًا ما أقحمت نفسي في أعباء ترهقني فوق طاقتي من الهموم والديون، وكلما فرجت، وزالت همومها، عدت لحملها بثقل أشق، وطالما تمثلت بقول القائل:

يقولون لي أتلفت مالك فاقتصد ________________________

فقلت ولولا ذاك ما كنت سيدا ________________________

وكثيرًا ما اتهمت بما لا علاقة لي به، ولم أنزعج، ولم أتوتر إلا بابتسامةٍ حائرة، وقد لا أعبأ بالنفي ولا أحاول الإقناع بالبراءة، وأدع للأيام ذلك.
لماذا اخترت الأدب العربي في تخصصك؟
جـ9: بفطرتي وميولي نحو الأدب تجلت موهبتي الشعرية مع الثانية عشرة من عمري، فبدأت أكتب الشعر في محاكاة القصائد النبوية، والعشق الإلهي التصوفي، ولأني كنت أحفظ متونًا كثيرة من متون الفقه والتصوف، وقواعد الإعراب فقد بدأت أنظم المسائل التربوية، وشعر الأدب السلوكي على غرار تحفة الطلاب للفقيه المفتي الحُبيشي الوصابي، بضم الحاء، وتحفة الأطفال للشيخ حسن الجسر مفتي طرابلس، وفي التغزل التصوفي حاكيت وقلدت الشاعر اليمني عبد الرحيم البرعي وابن الفارض المصري.
وكنت أعشق قراءة السِّيرة النبوية وقصص الصحابة وسير الأبطال، حتى كدت أحفظ كتاب خالد محمد خالد "رجال حول الرسول".
تقلدت العديد من المناصب العسكرية والسياسية والنيابية، وهذا يقودنا إلى السؤال عن أول عمل توليته، ثم بعد ذلك ما هي هذه المناصب التي تقلدتها، وما خلاصة تجربتك مع كل منصب من المناصب التي توليتها. وما أحبها إليك؟
جـ10: بعض المعلومات للإجابة عن السؤال جاءت في استطرادي بالرد على السؤال الأول وأريحك باعطائك نسخة من السيرة الذاتية مرفقة عن الأعمال التي توليتها بالتفاصيل والتواريخ مكانًا وزمانًا ويمكنك الإفادة منها، وملخصها كالتالي:
1- سفيرا مندوبا دائما لليمن لدى جامعة الدول العربية 2001م.
2- سفيرا بوزارة الخارجية اليمنية 200م.
3- عضو مؤسس لمجلس إدارة بنك التضامن الإسلامي لعامي 1995-1996م.
4- عضو مجلس إدارة بنك التضامن الإسلامي بصنعاء حتى عام 2002م.
5- محافظا لمحافظة مأرب 1995-1997م.
6- عضو لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب 1994-1995م.
7- عضو منتخب لمجلس النواب 1993-1997م.
8- عضو لجنة الشئون الثقافية والتعليمية بمجلس الشورى 1989م.
9- عضو منتخب لمجلس الشورى 1988-1993م.
10- مديرا عاما لمنطقة شرعب 1985-1988م.
11- مدير أمن ناحية مقبنة بمحافظة تعز 1980-1985م.
12- أمنا عاما منتخبا للمجلس البلدي بمدينة الحديدة 1979-1980م.
13- مدرس اللغة العربية والبلاغة بمعهد النور العلمي 1975-1978م.
أول إحساسك بروح الشاعر والأديب متى بدأ، وما هي الدواوين الشعرية والمؤلفات الأدبية التي أصدرتموها؟
بدأت حياتي مع الشعر والأدب في سن المراهقة المبكرة كما سبق في السؤال الآنف الذكر.
وأسماء مؤلفاتي بين يديك في السيرة المرفقة، وأذكر لك منها:
• درر النحور ثلاثة أجزاء دراسات نقدية وتحقيق لديوان القاسم بن علي بن هتيمل في الأدب العربي طباعة دار الجنان بيروت عام 1995م.
• أوتار ديوان شعر ط1 مطبعة أرض اللواء القاهرة 1991م، وأعيد ط2/2003م القاهرة بمطابع صحارى.
• ديوان أوحشتنا شعر (صدر مسموعا ومرئيا عن أستوديو مكين إصدار خاص بمعرض الكتاب الدولي بالقاهرة) نوفمبر 2002م.
• حنين ديوان يجمع أشعار الحنين في الشعر العربي صدر ضمن سلسلة مؤسسة الإبداع عام 2004م.
• خواطر وذكريات جزءان صدرت عن مطابع الدار البيضاء بالعباسية عام 1991م.
• أعلام الاغتراب سير ذاتية وتراجم لخمسين شخصية مهاجرة يمنية صدر عن وزارة المغتربين باليمن سنة 2002م طبعة أولى.
• من أوراق الأحرار مجموعة مقالات في السياسة والثقافة نشرت في جريدة الأحرار المصرية وصدرت عن مكتب (الشيخان) بالقاهرة عام 2002م.
• الحب في الأدب العربي دراسات نقدية لنصوص الحرب الشعرية ضمن سلسلة مؤسسة الإبداع ومنتدى المثقف العربي.
• دستور الحياة مقالات تربوية في وجوب اقتران الإيمان بالعمل.
• موسوعة أعلام اليمن ومثقفيه مقروءة، ومرئية ومسموعة، وعلى شبكة الانترنت www.al-aalam.com • ديوان قيثار شعر.
• الفكر الجديد: مقالات في مفاهيم الحوار والحضارات.
• ألف ساعة حرب تاريخ عسكري عن حرب الوحدة اليمنية جزءان في خمس طبعات.
• الاستراتيجية العسكرية لعاصفة الصحراء في التاريخ العسكري لحرب الخليج الثانية.
• المقاتلات العسكرية بين الحقيقة والخيال.
• ثقافة المقاتل دروس في القيم والأخلاق.
• تنشر لي مئات من المقالات والأبحاث في كثير من الصحف والمجلات.
قمتم في عام 1995م بإنشاء مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب، والفنون في صنعاء، ومنذ عام 2000م تقومون برعاية منتدى المثقف العربي في القاهرة، الذي بادرتم أنتم بإقامته. كيف بدأ هذان المنبران الأدبيان فكرة في بالكم؟ وما الذي قاما بإنجازه في الساحة الأدبية والثقافية العربية حتى الآن؟
جـ12: عندما تفرغت في فترة عملي بمجلس النواب في تسعينيات القرن العشرين الميلادي كان لدي من الفراغ العاطفي ثقافيًّا نحو الإبداع، والفكر الشيء الكثير، وكانت طبيعة أعمالي الإدارية والعسكرية والسياسية قبل عام 1990م تملأ كل وقتي وتنغص علي كل أوقاتي، فكلما هممت بالكتابة أو التدوين أو الإبداع تعترضني مئات القضايا، والالتزامات والواجبات، وكنت أمني النفس بيوم أجنح فيه إلى خدمة الأدب والثقافة والفن، وعندما أعلنت الوحدة اليمنية بين شطري اليمن، وتقاسم حزب المؤتمر والحزب الاشتراكي السلطة، كنت محظوظًا حيث لم يكن اسمي ضمن تشكيل حصة حزب المؤتمر الشعبي الذي أنتمي إليه سياسيًّا. وكانت عضوية مجلس النواب ليست إلا تقريرية، وتصويت على ما تتفق عليه قيادتا الحزبين الحاكمين، وأُعلنت يومذاك حرية الصحافة مطلقًا، وأعلنت التنظيمات السياسية السرية عن نفسها وكانت مخالب التحزب تتخطف الناس من كل جانب، وكنت ممن عاف التعصب الحزبي، وهناك بدأ انحيازي رسميًّا لإنشاء إحدى منظمات المجتمع المدني ثقافيًّا كأولى التجارب الأهلية الخاصة، وناديت أولا بتكوين نادي اليمن الأدبي، ودعوت لتأسيسه كوكبة من الشخصيات البارزة والموهوبة للتشاور والحوار، وصياغة نظامه الأساسي وتحديد أهدافه، وبرامج عمله، كما كانت اللقاءات بمنزلي تتم باستمرار، ونجحنا في تجهيز كل أدبياته ووثائق التأسيس، وكتبنا الهيئة التأسيسية والاستشارية وكافة الأنظمة، وقمنا بطباعتها، وطباعة بطائق العضوية والتزاماتها وامتيازاتها، وتقدمت بطلب تصريح من الجهات المختصة في وزارة الشئون الاجتماعية، واستأجرت مقرَّ المنتدى، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تأخرت رخصة الشئون الاجتماعية، وتحفظ عليها عدد من القائمين آن ذاك على الترخيص لأن أحد أهداف المنتدى وأفكاره تدعو إلى النأي بنشاطه عن الحزبية في ظل عصر حزبي. بل اكتشفت أن الذين شاركوني في التمهيد والدعوة إليه والعمل من أجل إبرازه كانوا يهدفون إلى الاستيلاء عليه لصالح هذا الحزب أو ذاك التي ينتمون إليها وأدركت أنني ومنتداي مدعوان إلى شباك ودوائر الحزبية فأضربت وجمدت المتابعة وانصرفت إلى متابعة إكمال دراستي تحقيق ودراسة لديوان ابن هتيميل، ونوقشت فيه كأطروحة علمية لنيل درجة الدكتوراه. وبمجرد عودتي إلى اليمن بدأت الأزمة السياسية بين الحزبين الحاكمين، وتوترت الأجواء، وفسد كل شيء، وانشغل كل منهما بالآخر، وعادت حليمة إلى سيرتها القديمة، ودخلت البلاد في أسوأ مراحل الأزمة السياسية والابتزاز السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فعكفت على رصد الأحداث بيومياتها وأصدرت كتابي "الاستراتيجية العسكرية لعاصفة الصحراء" طبعتين، وموضوعه "الحرب ضدَّ الكويت وضد العراق" خلال 90 و1991م، وأكثرت من البقاء والتردد على القاهرة، ولندن. واندلعت حرب عام 1994م بين الحزبين الحاكمين، فالاشتراكي يعمل لعودة انفصال الجنوب، والمؤتمر يتمسك ببقاء الوحدة السياسية لليمن، ودعيت للخدمة العسكرية في الليلة الأولى من اندلاعها، كان اللواء المرحوم محمد عبد الله صالح صديق شخصي وقائدي الذي كنت وسأظل أعتز بصداقته، دعاني وجهزني مع أعداد من قوات الأمن المركزي وفاءًا منه للوحدة اليمنية، ولإنقاذ فرع الأمن المركزي المحاصر في عدن. وكان لي شرف الذود عن وحدة اليمن خلال سبعين يومًا فقط كعضو لغرفة عمليات محور العند عدن وقائد لبعض الوحدات القتالية. ولكني اصطحبت معي كراسةً، وأقلامًا لأدون كلما أرى، وأسمع في يوميات مفصلة، كانت بعد نهاية الحرب بشهر واحدٍ قد صدرت في جزأين مطبوعة باسم "ألف ساعة حرب" وأصبحت أهم وثيقة للتوثيق التاريخي عن تلك الملحمة، وقد تلقاها الشعب بالقبول إلا الطرف المنهزم وأنصاره أو من كان له دور غير مشرف، وقد طبع ذلك الكتاب خمس طبعات في سبعين ألف نسخة ونفذت كاملةً.
هناك بعض الذين شاركوا في حرب الوحدة غير راضين عما كتبت في "ألف ساعة حرب"، لماذا؟
العبرة بالكل لا بالجزء، فهناك بعض الناس يريد الكتاب كله في مدحه وإبراز دوره فقط، ويغار من الاعتراف بدور الآخرين، ويطمع أن يكون البطل الوحيد، وآخرون لا يقرؤون، وإنما قرأ لهم من يثقون بهم، وهم غير أصحاب أدوار تذكر لهم، فقرأوه بحقد، ويكفي كتاب "ألف ساعة حرب" أنه طبع سبعين ألف نسخة، ونفذت طبعاته الخمس، ولم يستغن عن قراءته من كانوا معه، أو من كانوا ضده، ومع ذلك فليس معصومًا من الخطأ، وفيه ما هو بحاجة إلى إعادة صياغة، وهدوء في مفردات الأوصاف، شأنه شأن أي كتاب يؤلف على استعجال. وعندما وضعت الحرب أوزارها بدأ الحنين لمعاودة مشروعي الثقافي في اليمن، ولكن هذه المرة من خلال "مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون" مؤسسة خاصة أملكها وأتحمل مسئولية قيادتها ورعايتها هربًا من شعوبية الهيئات والمجالس التي تعيق، ولا تقدم، وتفسد ولا تصلح، وحصلت على تصريحها بصورة عاجلة، وأنشأت لها هيكلا إداريًّا متواضعًا من الشباب المتحمسين للمشروع والفكرة، وجمعت إليها مكتبة قيمة، وأضفت لها مكتبتي الخاصة التي جمعتها طيلة حياتي من صباي، وأوقفتها عليها. وقبل الإعلان عن انطلاقها فوجئت بتلفزيون صنعاء يعلن قرار رئيس الجمهورية بتعييني محافظًا لمحافظة مأرب، وما أدراك ما محافظة مأرب يومذاك، فرحبت بالتكليف، وقطعت زهاء ثلاث سنين في المحافظة، وبالرغم من التهاب أجواء تلك الفترة، ومعاناتها التي وضحتها في مذكراتي إلا أنني أزعم أنني حققت كثيرًا من الأعمال الخدمية، وحققت نسبة عالية من الأمن والاستقرار، وبنيت صداقات واسعة مع كل أبناء المحافظة، وقبائل مأرب. وفي غضون تلك الفترة استمرت مؤسسة الإبداع بإدارتها التي كلفتها تعمل باستمرار وأتابعها يوميًّا، وبدأت خلالها فكرة البدء في إعداد موسوعة أعلام اليمن ومثقفيه، وهي حكاية تطول روايتها، المهم أننا خلال هذه الفترة يسر الله وشريت لمؤسسة الإبداع أرضًا واقفتها لبنائها. وفي كل عام خصصت من دخلي، وقوت أولادي ومن ديون علي لأصدقائي رقمًا ماليًا لعمارة إدارتها، ومقرها الذي تم والحمد لله، وفيه مكاتب من دورين، ومكتبه عامة في الدور الثالث، ومركز كمبيوتر، وقاعات مطالعة. وأصدرت حتى الآن زهاء خمسة وعشرين كتابًا بين مخطوطات تم تحقيقها أو إبداعات مفيدة، كما أقامت عددًا من الندوات والملتقيات ذات الهدف الثقافي والأدبي. وما تزال تؤدي رسالتها في جو من احترام كل الأوساط الثقافية وحب المبدعين، وإن لم تكن كما أتمنى، ولكن ذلك جهد المقل، والحمد لله.
هذا عن الإبداع، فماذا عن منتدى المثقف العربي؟
جـ14: منتدى المثقف العربي في القاهرة، أسسته في نهاية سنة 2000 ميلادية في شكل صالون متطور، ولأني انتقلت من مأرب إلى القاهرة وجدت فراغًا في العاطفة الثقافية، وشوقًا لمواصلة المشوار الإبداعي من خلال صرح يسمح لي بذلك. فكان المنتدى في بداية تأسيسه بين الخوف والرجاء، والأمل، والإحباط، لكنه نما وتطور وأزهر، وأصبح أكبر ملتقيات القاهرة، وحديث الأوساط الثقافية، ومضرب المثل في النجاح، ومعشوق المبدعين من كافة الأقطار العربية المقيمين والمترددين على القاهرة، خاصة وأن أهدافه قومية لا قطرية، ومستقلة لا حزبية، ولا رسمية حكومية، وغدا منبرًا لكل المبدعين والموهوبين، والحمد لله. كما أصدر هذا المنتدى سلسلة ثقافية وإبداعية تحمل اسمه، يصدرها مطبوعة، وقد بلغت إصداراته اثني عشر إصدارًا ومنشورًا، كما أقام حتى الآن ستة وثلاثين ملتقى فكريًّا وأدبيًّا ناقش خلالها عددًا من الموضوعات الحية، والمثارة، كالحوار بين الحضارات، ومستقبل الثقافة العربية، ومناهج التعليم في الوطن العربي، ومستقبل اللغة العربية، ومواجهة بين الأصالة والحداثة، والإدارة بين الجمود والتجديد، إضافة إلى أمسيات شعرية، وفنية، ومناظرات، وأصدر مجلة المثقف العربي اللندنية بانتظام. كما أن المنتدى نال تغطيات بين حين وآخر من وسائل الإعلام المختلفة.
لماذا القاهرة بالذات كمنطلق لنشاط منتدى المثقف العربي؟ هل لأن عملكم في القاهرة؟
جـ15: من الطبيعي أن يوجد نشاط أي شخص حيث يكون صاحبه، ولقد كثرت أسئلة السائلين عن هذا، وبنفس الصيغة! وأعجب كثيرًا لماذا؟ أجئت بدعًا من الأمر حين جعلت القاهرة التي أُقيم بها منطلقًا لهذا المنتدى؟ فالقاهرة مناط كل عمل عظيم عبر العصور، وهي بؤرة الإشعاع التنويري في الوطن العربي منذ قرون، وأتمثل بقول الإمام الشافعي حين قال:

علمي معي حيثما لمِحت ينفعني ________________________
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ________________________

قلبي وعاءٌ له لا بطن صندوق ________________________
أو كنت في السوق كان العلم في السوق ________________________

ووفق هذه القاعدة، فحيث كنت سيكون نشاطي الثقافي الأبرز.
تتولون الآن منصب المندوب الدائم لليمن لدى جامعة الدول العربية، ومن قبل كانت طبيعة المناصب التي توليتموها سياسية، ألست معنا أن السياسة والأدب طريقان يفترقان في معظم الأحيان، ويلتقيان في النادر؟ وبرأيك ما هي عوامل التقائهما وافتراقهما في الذات الواحدة؟
جـ16: لست معكم في أن السياسة والأدب نقيضان، فالأدب موهبة وثقافة، والسياسة مهنة وثقافة، فالموهبة الذاتية شيء دائم، والمهنة ثيابٌ، مهما كانت تلبس بقرار وتنزع بقرار، والثقافة هي العامل الوحيد الذي يجمع بينهما، وبدون الثقافة والوعي الناضج، فلا آداب، ولا سياسة. وتحكم كل المواهب، والمهن أخلاق الذات الإنسانية، ورفعة القيم، فالأخلاق متى غابت عن شخص، فلا ثقافة، ولا سياسة، ولا موهبة، والأخلاق قيمٌ أخرى ربانية وهبها من يحب فقط. وإذا وجدت قيم الأخلاق، فكل المواهب والمهن يمكنها الاتفاق والتآزر في تشكيل الشخصية المبدعة، ومتى غابت الأخلاق فلا قيم للسياسة، ولا الآداب.

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ***** فأقم عليهم مأتمًا وعويلاً

وأيضًا الحكمة الأبلغ القائلة:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ***** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ومتى يحققا إيجابيتهما أو سلبيتهما إذا اجتمعا؟ وأين يقف أدبنا العربي اليوم حسب اعتقادك؟
جـ17: لا سلبية مطلقًا إذا اجتمع الأدب والفصاحة، والذوق السليم مع الدبلوماسية، وسخرا لبناء العلاقات، بل إيجابية مطلقة، والشاعر اللسن يدخل مع الخلق السليم قلوب الناس بالحب والرضى والقبول، وفي تاريخ العمل الدبلوماسي عشرات من السفراء الشعراء، منهم عمر بهاء الدين الأميري، ونزار قباني، وعمر أبو ريشة، وغازي القصيبي، وعبد الوهاب عزام، وغيرهم الكثير. أما الحديث عن الأدب العربي، وأين يقف، فهذا همٌ من هموم حياتنا الأدبية المعاصرة، وخاصة في ظل افتراق الأديب عن السياسي، والتنافر في شخصيتهما، وتعرض الأديب للاضطهاد والتجويع من السياسي، وتعرض السياسي للهجاء، والتشنيع من الشاعر والأديب. والمعارك بين الطرفين قوية، وقديمة، لكن عندما يتحد كلاهما، سواءً في شخص واحدٍ، أو في أشخاص مؤتلفين، فتنشأ عن علاقة الطرفين مدارس فريدة، وإبداعات مفيدة في الحياتين الأدبية والسياسية. وأدبنا العربي اليوم كما كان أدبنا العربي قديمًا، بين صعود وهبوط، ومدارس تولد وتموت، ولكن سيظل البقاء والخلود للأصلح، والأفصح، والأرق، والأبلغ، والمتين، وما عدا ذلك فهراء سيتبخر، وسيصبح زبدًا يذهب جفاء.
ما هي الرؤية التي تخرجون بها من منصبكم الحالي، سواء على مستوى السياسة العربية، أو على مستوى الجامعة العربية ومواقفها أمام القضايا العربية؟
جـ18: العمل العربي الحالي في إطار الجامعة العربية، في هذا الإطار الزمني، محبط، ومفرغ من محتواه، وهو عمل دءوب كبير، ومجهد، ولكن لا مجال لتحقيق شيء على الصعيد التنفيذي، إنما نحن في أروقة الجامعة العربية نمثل ببغاوات بشرية، نردد ما يقوله زعماء العرب الذين أبو أن يغادروا تقديس الذات، ويضحوا في سبيل أمتهم الكبرى بشيء يسير من نزواتهم السلطوية، فما أجمل ما يقال، وما أسوأ ما يعمل.
أُمة قد فت في كاهلها ***** بغضها الأهل وحبَّ الغرباء

ولم أكن متفائلاً بأدنى بارقة أمل في عودة الأمة العربية إلى التشابك والتلاحم المخلص ما دام أبطال داحس والغبراء على صهوات الأقطار العربية المقطرة بدماء القهر، والفقر، والسعيد من أراح نفسه ولزم شأنه.
سمعنا أنكم تعكفون ومنذ تأسيس مؤسسة الإبداع على إصدار موسوعة أعلام اليمن. كيف بدأت الفكرة؟وإلى أين وصلت؟
جـ19: موسوعة أعلام اليمن ومثقفيه لم تعد نيةً من نوايا المستقبل، وإنما ها هي رأى العين، أنجزتها بعد عناء، وإجهاد، وإفلاس. ويمكنكم الاطلاع عليها عبر وسائل ثلاث: الأولى موقع الإنترنت على محرك بحث كامل متطور بعنوان: "www.al-aalam.com/list.htm "، والثانية على قرص مضغوط CD بمحرك بحث فائق الجودة والإتقان، والثالثة هي تحت الطبع في ثمانية مجلدات ضخمة، ستكون قريبًا إن شاء الله في الأسواق. لقد دعتني حاجة البحث، وعشق التاريخ، إلى التجشم الأكبر لإخراج هذه الموسوعة، من أكثر من 700 مرجع، بين مخطوط، ومطبوع، وشهادات معاصرين، وآثار أهل الأزمان الغابرين. تداركت فيها ما فات من قبل، وأرحت بها الباحثين المعاصرين، وعصمت الأجيال القادمة من نسيان أو الوقوع في لبس، أو جهل بأعلامهم عبر الزمن. كما ابتكرت طرقًا سهلةً للبحث عن أي اسم كان، في أي مكان في أرجاء الموسوعة، بمحركات بحث سريعة، وبطرق متعددة، الكترونية، أو يدوية، وأحصيت تراجم الأعلام المشهورين في عصورهم، أو مجتمعاتهم، من أموات وأحياء، ولولا ضيق ذات اليد، لأكملت التراجم والسير لكافة أهل البلاد العربية قطرًا قطرًا، أحياءً وأمواتًا، وإذا كان في العمر سعة، والله المعين، ستكتمل.
وابن هتيمل، ما قصتكم مع هذا الشاعر الذي حظي منكم بكتاب "درر النحور" الذي يقع في ثلاثة مجلدات؟
جـ20: ابن هتيمل شاعر كبير في قامة الشاعر البحتري، ورقته، عاش في القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، والسابع الهجري، اشتهر شعره، ولكنه انتثر وتشتت وضاع في خزائن المكتبات الخاصة في اليمن، وانتقل مجزءًا ومحرفًا إلى كثير من مكتبات العالم، ولكنه فقد بعد ذلك من كافة المكتبات اليمنية الخاصة والعامة. وعلى جمال أسلوبه، ورقة تعبيراته، وبدائع صوره، ناله ظلمٌ، وضياع، وظل رغم مرور ثمانية قرون على رحيله، مزمارًا في أفواه الناس من رجال ونساء، يتناقلون بعض نصوصه ويُغنونها، فعشقت ابن هتيمل شاعرًا، فوهبته من أيام عمري ثلاث سنين، جمعت فيها شتات شعره، وحققته، ونلت به درجة الدكتوراه، ونشرته في ثلاث مجلدات زاهية. وأضفت له دراسة، وعرض، وتحليل، مجلدًا إضافيًّا.
بعد هذا المشوار الطويل والمتواصل من السياسة والأدب، ما الذي يتمناه الدكتور عبد الولي الشميري ولم يتحقق بعد؟ وما الذي يقوله عن الزمن والحياة بشكل عام؟
جـ21: ما تحقق حتى الآن لا يمثل شيئًا من قائمة أولويات الأمنيات، بل شذرات من هوامش الطموح، سواءً علميًّا، أو عمليًّا، لكن الإنسان محكوم بظروف أقدار الله له، وقد أدركها الشاعر الحكيم فقال:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ***** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

علاقاتي حقًا واسعة مع أهل المشرق والمغرب، ولكن الأوسع منها طموحي، وحبي، ونزعات روحي، وأشعر بأني لم أبلغ مما أريد شيئا، وما أريد أن يتحقق لا أرى العمر يتسع لبلوغه، ولكن لي هموم وعزيمة، على عربات أيامي العابرة، على قضبان الزمن، أتفانى لتحقيق أكبر قدر أستطيع تحقيقه قبل أن يعلن قطار العمر التوقف في المحطة الأخيرة، حيث يكون آخر توقيع لي على سبورة الحياة، وأغادر القلم والألم، وتقضى كل حاجات الحياة. الحياة ليست حديقة من الزهور الفواحة، كما ليست كل ورودها بلاستيكية، أجمل ما فيها الحبُّ والعافية، وأسوأ ما فيها الجهل، والفقر. أحبُّ شيء إلى قلبي بعد الأربعين الخلوة، والتأمل، وأكره شيء إليَّ العمل الذي يأخذ الوقت ولا يفيد أحد من الناس، مهما كانت صفته، أو امتيازاته، وللأسف لست سعيدًا بعملي السياسي في ظل الخذلان العربي، أترقب فرصة لمغادرة الوظيفة الحكومية، ذات القيود الغبية، قبل أن يعجز جناحي عن التحليق في سماوات الإبداع، والفكر، أما السعادة الحقيقية، فلا توجد في الوظائف العامة، بل في الاستغناء عن الناس، والاستفادة مما ينفع في حسن استغلال الوقت، العمر كالطيف، أو كالسيف، يمر دون تمهل ولا إمهال. ولي كتب في الفكر، ورؤى جديدة في النقد، وأفكار جديدة في التجديد، لم يسبقني أحد إليها، أتمنى إبلاغها للناس، ونشرها في حياتي، مهما هيجت مشاعر الرضا، والغضب، لأنها أنا الحقيقي، وذاتي الحرة، في عوالم التقليد، والجمود، والاستبداد. متى؟ كيف؟ لا أدري.
- بمن تأثرتم في كل المجالات؟ ومن أشهر أصدقائكم؟
أولا في مراحل الطفولة والصبا، سبق الحديث عن ذلك. أما في مراحل النُّضج والكهولة، فما عدت أرى من أفيد منه إلى درجة التأثر به في كل مجالات المعرفة والعمل، وليس في بني زمني إلا صديقٌ أحبه، أو محب لي أبادله، أو محسنٌ إليَّ أوفيه حقه. وانظر إلى مشاهير القطبية، وعظماء السياسة والأموال، والجاه، والسلطان، نظرة المتعطف عليهم بأن ابتلاهم الله بما ليسوا قادرين عليه، وليس لديهم ما يميزهم عن عامة الناس، إلا الحظ، أو الابتلاء، وأرى كل من عليها دون بلوغ مرتبة التأثير إلا الكتاب المفيد، والفكر الرشيد، أومن رزقه الله العقل الكامل، والخلق القويم، الذي أتأثر به، وأقترب من الإفادة منه، وما سوا ذلك فلا.
- ما هي أعسر اللحظات التي مرت في حياتكم، وأحرج المواقف التي صادفتموها كسياسي أو كأديب؟
المواقف المحرجة كثيرة، ولا مكان هنا يكفي لسياقها، ولكن المواقف المحزنة معدودة ومريرة، ومنها حادثة واحدة أذكرها لك، حين تعرضت لمحنة بمؤامرة طبيبي الذي أمنته، أدت إلى إقعادي بين الحياة والموت على أَسِرَّة المستشفيات في لندن، والقاهرة، وأمريكا، وألمانيا سنة كاملة، وتعرضت خلالها لعدد تسع عمليات كبرى، ومازلت أعاني من آثار بعض تلك السموم، إضافة إلى معاناة طبية لم يكن لها ما يبررها، ولكني رضيت كل الرضا، وحمدت الله في السراء والضراء.
أما المواقف المحرجة في حياتي فكثيرة، والأصعب منها أن أفشي جوانب منها لم يحن بعد الوقت للكشف عنها، وخاصة ما يتعلق بآخرين، ولكنها مدونة لوقت قريب، وأتمثل بقول الشاعر:
يا رب جوهر علم لو أبوح به ***** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولا استحل رجال مسلمون دمي ***** يرون أقبح ما يأتونه حسنا

أشكر لك هذا التحقيق، والنبش، مع جزيل شكري.

 
    رجوع 
shimery.com
مقالات | ألبوم الصور | مؤتمرات | لقاءات صحفية | نشاط ثقافي
لمراسلة موقع السفير راسلنا علي
info@shemiry.com